فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
كتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله: الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له. ومعنى الإحكام: نظمه نظمًا رضيًا لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم.
وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيمًا، فالمعنى: جعلت حكيمة كقولك: تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله: {الكتاب الحكيم} وقيل: من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى: منعت من النساء كما قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة: أحكمت من الباطل.
قال ابن قتيبة: أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل.
إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.
وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب.
وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ.
وقيل: فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري: ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولًا سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص.
وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية: ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات.
قال صاحب اللوامح: يعني انفصلت وصدرت.
وقال ابن عطية: فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول: فصل فلان بسفره.
قال الزمخشري: وقرئ أحكمت آياته ثم فصلت أي: أحكمتها أنا، ثم فصلتها.
فإن قلت: ما معنى ثم؟
قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى.
يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة.
ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبرًا بعد خبر.
قال الزمخشري: أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي: من عنده إحكامها وتفصيلها.
وفيه طباق حسن، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي: بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى.
ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معًا من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى.
وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار.
وقيل: التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولًا من أجله، ووصلت أنْ بالنهي.
وقيل: أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي.
وقيل: أنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت.
وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب.
والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من جهته.
أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به.
وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
{الر} محلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وقيل: على أنه مبتدأٌ والأولُ هو الأظهرُ كما أشير إليه في سورة يونُسَ، أو النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحو اذكُر أو اقرأ على تقدير كونِه اسمًا للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ، أو لا محلَّ له من الإعراب مسرودٌ على نمط التعديدِ حسبما فُصِّل في أخوَاته، وقوله تعالى: {كِتَابٌ} خبرٌ له على الوجه الثاني، ولمبتدأ محذوفٍ على الوجوه الباقيةِ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} نُظمت نظمًا مُتْقنًا لا يعتريه خللٌ بوجه من الوجوه أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائِقها أو مُنعت من النسخ بمعنى التغييرِ مطلقًا أو أُيّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على كونها من عند الله عز وجل أو على ثبوتِ مدلولاتِها فالمرادُ بالآيات جميعُها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعيةِ فالمرادُ بها بعضُها المشتملُ عليها كما إذا فُسِّر الأحكامُ بالمنع من النسخ بمعنى تبديلِ الحُكمِ الشرعيِّ خاصةً، وأما تفسيرُه بالمنع من الفساد أخذًا من قولهم: أحكمتَ الدابة إذا وضعتَ عليها الحَكَمة لتمنعَها من الجِماح ففيه إيهامُ ما لا يكاد يليقُ بشأن الآياتِ الكريمةِ من التداعي إلى الفساد لولا المانع، وفي إسناد الإحكامِ على الوجوه المذكورةِ إلى آيات الكتابِ دون نفسِه لاسيما على الوجوه الشاملةِ لكل آية منه من حسن الموقعِ والدِلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى: {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جُعلت فصولًا من الأحكام والدلائل والمواعظِ والقِصصِ أو فُصّل فيها مَهمّاتُ العبادِ في المعاش والمعادِ على الإسناد المجازيِّ والتفسيرُ بجعلها آيةً آيةً لا يساعده، لأن ذلك من الأوصاف الأوليةِ فلا يناسب عطفُه على أحكامها بكلمة التراخي، وأما المعنيان الأوّلانِ فهما وإن كانا مع الأحكام زمانًا حيث لم تزَل الآياتُ مُحكمةً مفصّلة لا أنها أُحكِمَتْ أو فُصِّلَت بعد أن لم تكن كذلك، إذ الفعلانِ من قَبيل قولِهم: سبحان من صغّر البَعوضَ وكبّر الفيلَ، إلا أنهما حيث كانا من صفات الآياتِ باعتبار نسبةِ بعضِها إلى بعض على وجه يستتبِعُ أحكامًا مخصوصةً وآثارًا معتدًّا بها، وبملاحظة مصالحِ العبادِ ناسبَ أن يشار إلى تراخي رتبتِهما عن رتبة الإحكام، وإن حُمل جعلُها آية آيةً على معنى تفريقِ بعضِها عن بعض يكونُ من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثارِ، أو فُرّقت في التنزيل منجّمة بحسب المصالحِ فإن أريد تنزيلُها المنجَّمُ بالفعل فالتراخي زمانيٌّ وإن أريد جعلُها في نفسها بحيث يكون نزولُها منجّمًا حسبما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ فهو رُتبيٌّ لأن ذلك وصفٌ لازمٌ لها حقيقٌ بأن يُرتَّبَ على وصف إحكامِها وقرئ أحكمتُ آياتِه ثم فصّلتُ على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرّقت بين الحق والباطل.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفةٌ للكتاب وُصف بها بعد ما وصُف بإحكام آياتِه وتفصيلِها الدالّين على رتبتِه من حيث الذاتُ إبانةً لجلالة شأنِه من حيث الإضافةُ، أو خبرٌ للمبتدأ المذكور أو المحذوفِ، أو صلةٌ للفعلين وفي بنائها للمفعول ثم إيرادِ الفاعلِ بعنوان الحِكمة البالغةِ والإحاطةِ بجلائلها ودقائِقها منكرًا بالتنكير التفخيميّ وربطِهما به لا على النهج المعهودِ في إسناد الأفاعيلِ إلى فواعلها مع رعاية حسنِ الطباقِ من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونِهما على أكمل ما يكون ما لا يُكتنه كُنهُه.
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله}
مفعولٌ له حُذف عنه اللامُ مع فقدان الشرطِ، أعني كونَه فعلًا لفاعل الفعلِ المعللِ جريًا على سنن القياسِ المطّردِ في حذف حرفِ الجرِّ مع أن المصدريةِ، كأنه قيل: كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصّلت لئلا تعبدوا إلا الله، أي لتترُكوا عبادةَ غيرِ الله عز وجل وتتمحّضوا في عبادته، فإن الإحكامَ والتفصيلَ على ما فُصّل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيدِ وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبةً. وقيل: أنْ مفسرةٌ لما في التفصيل من معنى القولِ أي قيل: لا تعبدوا إلا الله: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ} من جهة الله تعالى: {نَّذِيرٌ} أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركو ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى: {وَبَشِيرٌ} أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته، ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفارَ والتوبة ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارِنًا للحُكم برسالته عليه السلام كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر، وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحليةِ لتجاوب أطرافِ الكلامِ، ويجوز أن يكون قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} كلامًا منقطعًا عما قبله واردًا على لسانه عليه السلام إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه عليه السلام قال: تركَ عبادةِ غيرِ الله أي الزموه، على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركًا مستمرًا إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير، أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدِكم. اهـ.

.قال الألوسي:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل، وسيبويه. وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي. والسدى، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادي كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقايل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسمًا للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بالر وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: {كِتَابٌ} خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر: {أُحْكِمَتْ ءاياته} أي نظمت نظمًا محكمًا لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالأحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالأحكام من أحكمه إذا منعه؛ ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم إن أغضبا

وقيل: المراد منعت من الفساد أخذًا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية.
وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوف يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضًا على حسب ما أشرنا إليه؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلًا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه.
وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} [هود: 12]: {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [هود: 51] الآية ونسخت بقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكمية أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيمًا، ومنه قول نمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضًا رويدا ** إذا أنت حاولت أن تحكما

فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيمًا، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لاسيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى: {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللالئ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلًا فصلًا من السورو يراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضًا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه.
أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجمًا نجمًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، و: {ثُمَّ} على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجمًا حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الأخبارين.
واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازًا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخير الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخى رتبة التفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الأحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد بثم تبلغ اثنين وثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالًا ولا حجر.
والزمخشري ذكر للأحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه.
أخذه من أحكام البناء نظرًا إلى التركب البالغ حد الإعجاز.
أو من الأحكام جعلها حكيمة.
أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة.
جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها، وجعلها فصولًا سورة سورة وآية آية.
وتفريقها في التنزيل.
وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى: {ثُمَّ} ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضًا أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الأحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويًا لكن التفصيل اكمال لما فيه من الإجمال، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الأحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولًا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيًا أيضًا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقًا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فأخباري، والأحسن أن يراد بالأحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين: {حيكم} و{خبير} و: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ} و: {فُصّلَتْ} ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والأخباري انتهى فليتأمل، وقرئ: {أُحْكِمَتْ} بالبناء للفاعل المتكلم و: {فُصّلَتْ} بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: {فُصّلَتْ} هنا مثلها في قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] أي انفصلت وصدرت: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الداليت على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف.
وفي الكشاف أن فيه طباقًا حسنًا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلت الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} [النور: 36-37] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ** ومختبط مما تطيح الطوائح

ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لاسيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، و: {لَّدُنْ} من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والراد هنا الأخير مجازًا، وينبت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالًا واحدًا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الأخبار بها وعنها ولا يينى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي فانهما لا يلزمان استعمالًا واحدًا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59]: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت.
نعم جاء عن قيس اعرابها تشبيهًا بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم: {بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] بالجر واشمام الدال الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن من وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:
وتذكر نعماه لدن أنت يافع

وفعلية كقوله:
صريح غوان راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب

ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:
وليت فلم تقطع لدن ان وليتنا ** قرابة ذي قربى ولاحق مسلم

ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لاسيما في مثل لدن أنت يافع وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:
لدن غدوة حتى دنت لغروب

وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضماء كان، وفيها ثمان لغات.
فمنهم من يقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يتلقى ساكنان.
فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى لد بفتح اللام وسكون الدال.
ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام والدال وسكون النون.
ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضًا.
فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول لد بضم اللام وسكون الدال.
ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات.
وجاء لد بحذف نون: {لَّدُنْ} التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل لد لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فقتول: من لدنك ولا يجوز من لدك كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)} {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل: {إن} مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة.
وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالًا لفظيًا بل هو ابتداء كلام قصد به الاغراء على التوحيد على لسانه صلى الله عليه وسلم و: {إن} وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضًا مفعولًا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون: {إن} والفعل في موقع المفعول المطلق، وقد صرح بعض المقحقين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ضمير الغائب المجرور لله تعالى و: {مِنْ} لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكن من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه أن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون: {مِنْ} صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضًا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وإما للكتاب على معنى إني لكن نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به. اهـ.